ما بين جبل حمرين وبغداد هل كانت الطريق تقود الى السماء؟

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
16/08/2009 06:00 AM
GMT



 كانت فكرته عن الرجل الذي اوقفه وطلب منه ان ينقله الى مكان يقع على الطريق قد اكتسبت طابعا ميتافيزيقيا منذ اللحظة الاولى التي وقعت فيها عيناه على ذلك الرجل الغريب الواقف في طريق لا بيوت فيها. 'ولكن الخضر لا يحتاج الى ركوب سيارة لكي ينتقل من مكان إلى آخر. قلت لنفسي.' قال لي شاكر حسن آل سعيد. 'لديه جناحان غير مرئيين يعينانه على التنقل في الفضاء، ثم ان في إمكانه أن يستعين بالملائكة ليذهب حيثما يشاء' اضاف.
 
 ومع ذلك فان سعادته الهته عن النظر المباشر الى ضيفه المبارك. كان مطمئنا إلى أن ذلك الغريب قد اختاره صديقا، بعد ان ألهمته العناية الإلهية سبب تلك الصداقة. أن يكون المرء صديقا للخضر فتلك واحدة من أعظم النعم. 'ها أنذا أضع قدما واحدة في الجنة. نبوءة لم أكن أتوقع تحققها بهذا الاسلوب اليسير والمبكر. شيء من الرضا العميق عشته وأنا اراقب الشمس تخرج من مكمنها في ذلك الفجر الازرق' كانت لدى آل سعيد اسئلة مؤجلة كثيرة في انتظار لحظة من هذا النوع، حيث الاشراق كله يتجسد في هيئة بشرية مؤقتة. 'لقد أدركت أن الرجل الجالس الى جانبي لم يكن إنسيا. كان عبارة عن مفهوم. النبوة وقد تخطت حيزها البشري لتكون قوة روحية لا يمكن ادراك سعتها ولا معنى ارتباكها. لم يكن الرجل الذي جلس الى جانبي إلا شعاعا ينبعث من تلك القوة' كان صامتا فحرص آل سعيد على أن يحترم صمته. في الجهة اليمنى من الطريق كان جبل حمرين لا يزال يخبئ شيئا من بداهة نهار جديد. حين قال الضيف: 'قف هنا، لقد وصلت. انا اشكرك' صعق آل سعيد وعقدت الحيرة لسانه. فهذا يعني ان الرحلة قد انتهت فيما كان يعتقد أن حياة حافلة بالاشراق ستكون في انتظاره بمعية ذلك الكائن الملهم. وقبل أن يقول كلمة فتح الرجل باب السيارة وهبط الى الطريق. يقول آل سعيد:' لقد بقيت واقفا ونظرت الى الجهة التي هبط اليها ذلك الغريب فلم أر أثرا منه. لقد اختفى فجأة كما لو أنه تسامى. حينها تأكدت من أن ذلك الرجل كان الخضر بعينه. يومها كان آل سعيد في الستين من عمره، وكانت صداقات كثيرة تجمعه بكائنات غير مرئية، بعضها سبق لها أن عاشت مثلما يفعل البشر العاديون، والبعض الآخر هي محض تجل لفكرة مطلقة، حدودها لا تستجيب لشروط الوجود البشري. ولم يكن آل سعيد ليفرق بين أصدقائه أولئك تبعا لطرقهم في العيش. كان الرجل مسكونا بفكرة أن يكون موجودا في مكان ما، قد يكون صورة عن لامكان تجد فيه الارواح سلامها.
2

للرسام هدهده النائم. حين عاد الى البيت كان آل سعيد قد ترك عند الموضع الذي هبط اليه ذلك الغريب من السيارة جزءاً من روحه، شيئا من قوة خياله. جبل حمرين سيظل شاهدا على تلك الواقعة. 'ما دام الحجر يصلي فأنا على يقين من أنه يتكلم، لكن حين يحين الأوان' سيقوم الهدهد بالمهمة. عليه أن يرسم أولا خرائط للطريق التي تعيد الرسام الى اجزائه المفقودة أو تعيد تلك الأجزاء إليه. ليس ثمة جدار ولا أثر ولا خطوة. طريق ملساء محا الخضر علاماتها فصارت أشبه بمتاهة ذلك الاعرابي التي غاص في كثبانها الرملية ملك الصين في حكاية بورخيس. لن يعود الطائر بعينين باكيتين فهو الآخر على يقين من أن سليمانه كان على حق في حيرته. سيتعلم الرسام بعدها شيئا من خبرة الهدهد لكي يكون في المرة القادمة أكثر حذرا.
 
'ولكن لن تكون هناك مرة ثانية. المعجزة تحدث مرة واحدة في عمر الكائن الفاني' يقول لي آل سعيد بضحك هو كالبكاء. يتذكر أن بورخيس لمس ذات مرة نمرا ولم يتعرف عليه. لم يدهشني أن الرجل الذي قابله شاكر قد اختفى، فغالبا ما تختفي الكائنات والأشياء التي تقع في محيط آل سعيد البصري. بل ان تلك الكائنات والأشياء لو لم تملك خاصية الاختفاء لما وقعت في ذلك المحيط الذي يتميز بتيارات هوائه المتقاطعة. ولكن من بين المختفين لماذا أختار شاكر الخضر بذاته؟ سألت الرسام حين التقينا آخر مرة قبل خمسة أعوام من موته فأنكر أنه روى لي حكاية من هذا النوع. غير أنني لاحظت أن انكاره لم يكن قاطعا ولم ينظر في عيني وهو يقول لي:'دعنا من كلام ضرره أكثر من نفعه'. شعرت أني يومها قد جعلته كمن يلمس نمرا من غير أن يتعرف عليه. كنت شاهدا على شعوره بالفشل. وإذا ما عرفنا أن سحر شاكر حسن آل سعيد رساما يكمن في فشله بل وفي تماهيه مع ذلك الفشل، فلا بد أن تكون لنا الجرأة على غض الطرف عنه وهو يتابع مصائر كائناته الملهمة. تذكرت أن ذلك الغريب لم يكن انسانا بل كان مفهوما. العناية الالهية جعلته يتجسد في هيئة انسان ليهب آل سعيد موقعا بين الانسان وبين مفهومه. في تلك اللحظات اللازمنية صار الرسام نفسه مفهوما. وهو ما خلص اليه بعد موته.
3
بعد أن سألت الكثيرين تأكد لي أن آل سعيد لم يرو حكاية لقائه بالخضر لأحد آخر فبدأت أشك بأني قد شُبه لي ليس إلا. ربما كنت أود في أعماقي أن يحدث ذلك اللقاء. غير أنني تراجعت عن شكي حين سمعت آل سعيد يهمس في أذني وهو يودعني في لقائنا الأخير:'انس ما رويته لك فقد يكون ذلك اللقاء واحدا من أوهامي الكثيرة' لم أسأله يومها 'لماذا لم تُخبر أحدا سواي بذلك الوهم'، بسبب أني يومها كنت لا أعرف أن الرسام لم يختر أحدا سواي لحفظ السر، بل اني لم أدرك إلا متأخرا أن الرسام كان يعتبر لقاءه اللاتاريخي ذاك نوعا من السر. قبل الفجر بقليل يخرج عليك رجل من بين حقول الطريق فلا تشعر بالخوف منه وتقله بسيارتك الى حيث يريد من غير ان تكلمه وحين يطلب منك التوقف يختفي ما ان يهبط لتستسلم من بعدها للفجر. تلك الكيلومترات التي مشاها آل سعيد ما بين الموضع الذي أوقفه الغريب فيه وبين الموضع الذي غادر فيه ذلك الغريب السيارة قد لا تكون موجودة واقعيا على الطريق المتجهة من جبل حمرين الى بغداد. قد لا تكون طريقا أفقية، عاش آل سعيد أثناءها حالة من الانخطاف التي حررته من كيانه الواقعي. حالة هي أشبه بالحالة التي يعيشها الرسام حين يرسم أو الشاعر حين يكتب قصيدة أو الموسيقي حين يستجلب أنغاما من الهواء. فاتني أن أسأل آل سعيد يومها هل نظر إلى عداد الكيلومترات في سيارته أم لا بعد ان هبط الغريب من السيارة؟ طبعا من عرف الرجل لا بد أن يدرك أن سؤالا من هذا النوع يُعد من الاسئلة العبثية التي توجه إلى كائن لم يكن الواقع بالنسبة له إلا ذريعة للاستمرار في حياة هي في حقيقتها مجموعة متلاحقة من الوقائع الزائلة التي لا معنى لها.